قال القديس إيرونيموس (جيروم): «أما الأسفار الأخرى فتقرأها الكنيسة لقدوة السيرة وتهذيب الأخلاق، ولكن لا تستند إليها في تعليم، ولا تثبت منها عقيدة (وهنا ذكر أسماء الأسفار الأبوكريفا. وجميع أسفار العهد الجديد كما هي مقبولة عموماً نقبلها ونحسبها قانونية». وأما الأسفار المسمّاة «الأبوكريفا» فليست من الأسفار المقدسة، ولم تُكتب بوحي إلهي، فلا سلطان لها، وتُعتبر وتُستعمل كسائر المؤلفات البشرية.
كتب الأبوكريفا هي الكتب المشكوك في صحتها، أو في صحة نسبتها إلى من تعزى إليهم من الأنبياء، هي كتب طوبيا، ويهوديت، وعزراس الأول والثاني، وتتمَّة أستير، ورسالة إرميا، ويشوع بن سيراخ، وباروخ وحكمة سليمان، وصلاة عزريا، وتسبحة الثلاثة فتيان، وقصة سوسنة والشيخين، وبل والتنين، وصلاة منسى، وكتابا المكابيين الأول والثاني. ومع أن هذه الأسفار كانت ضمن الترجمة السبعينية للعهد القديم، إلا أن علماء اليهود لم يضعوها ضمن الكتب القانونية. وبما أن اليهود هم حفظة الكتب الإلهية، وعنهم أخذ الجميع، فكلامهم في مثل هذه القضية هو المعوّل عليه. وقد رفضوا هذه الكتب في مجمع جامينا (90م) لاعتقادهم أنها غير موحى بها، للأسباب الآتية:
(1) إن لغتها ليست العبرية التي هي لغة أنبياء بني إسرائيل ولغة الكتب المنزلة، وقد تأكدوا أن بعض اليهود كتب هذه الكتب باللغة اليونانية.
(2) لم تظهر هذه الكتب إلا بعد زمن انقطاع الأنبياء، فأجمع شيوخ اليهود على أن آخر أنبيائهم هو ملاخي. وورد في كتاب الحكمة أنه من كتابة سليمان، وهو غير صحيح، لأن الكاتب يستشهد ببعض أقوال النبي إشعياء وإرميا وهما بعد سليمان بمدة طويلة، فلا بد أن هذه الكتابة تمَّت بعد القرن السادس ق.م. ويصف كتاب الحكمة اليهود بأنهم أذلاء، مع أنهم كانوا في عصر سليمان في غاية العز والمجد.
(3) لم يذكر أي كتاب منها أنه وحي، بل قال كاتب المكابيين الثاني (15: 36-40) في نهاية سفره «فإن كنت قد أحسنتُ التأليف وأصبتُ الغرض، فذلك ما كنت أتمناه. وإن كان قد لحقني الوهن والتقصير فإني قد بذلتُ وسعي. ثم كما أن شرب الخمر وحدها أو شرب الماء وحده مُضرّ، وإنما تطيب الخمر ممزوجةً بالماء، وتُعقِب لذةً وطرباً كذلك تنميق الكلام على هذا الأسلوب يُطرب مسامع مُطالعي التأليف». ولو كان سفر المكابيين وحياً ما قال إن التقصير ربما لحقه!
(4) في أسفار الأبوكريفا أخطاء عقائدية، فيبدأ سفر طوبيا قصته بأن طوبيا صاحَب في رحلته ملاكاً اسمه روفائيل، ومعهما كلب. وذكر خرافات مثل قوله: «إنك إن أحرقت كبد الحوت ينهزم الشيطان» (طوبيا 6: 19). ونادى بتعاليم غريبة، منها أن الصَّدقَة تنجي من الموت وتمحو الخطايا (طوبيا 4: 11، 12: 9). وأباح الطلعة (الخروج لزيارة القبور) وهي عادة وثنية الأصل، وتخالف ما جاء في أسفار الكتاب المقدس القانونية. وجاء في 2مكابيين 12: 43-46 أن يهوذا المكابي جمع تقدمة مقدارها ألفا درهم من الفضة أرسلها إلى أورشليم ليقدم بها ذبيحة عن الخطية «وكان ذلك من أحسن الصنيع وأتقاه» لاعتقاده بقيامة الموتى وهو رأي مقدس تقَوي. ولهذا قدم الكفارة عن الموتى ليُحلّوا من الخطية. مع أن الأسفار القانونية تعلّم عكس ذلك.
(5) في أسفار الأبوكريفا أخطاء تاريخية، منها أن نبو بلاسر دمر نينوى (طوبيا 14: 6) مع أن الذي دمرها هو نبوخذ نصر. وقال إن سبط نفتالي سُبي وقت تغلث فلاسر في القرن 8 ق م، بينما يقول التاريخ إن السبي حدث في القرن التاسع ق م وقت شلمنأصر. وقال طوبيا إن سنحاريب ملك مكان أبيه شلمنأصر (طوبيا 1: 18)، مع أن والد سنحاريب هو سرجون. وجاء في يشوع بن سيراخ 49: 18 إن عظام يوسف بن يعقوب «افتُقدت وبعد موته تنبأت».
(6) لم يعتبر اليهود هذه الكتب مُنزلة، ولم يستشهد بها المسيح ولا أحد من تلاميذه، ولم يذكرها فيلو ولا يوسيفوس ضمن الكتب القانونية، مع أن المؤرخ يوسيفوس ذكر في تاريخه أسماء كتب اليهود المنزلة، وأوضح تعلّق اليهود بها، وأنه يهُون على كل يهودي أن يفديها بروحه.
(7) سار الآباء المسيحيون الأولون (ما عدا قليلون منهم) على نهج علماء اليهود في نظرتهم إلى هذه الأسفار. ومع أنهم اقتبسوا بعض أقوالها، إلا أنهم لم يضعوها في نفس منزلة الكتب القانونية. وعندما قررت مجامع الكنيسة الأولى الكتب التي تدخل ضمن الكتب القانونية اعتُبرت هذه الكتب إضافية أو محذوفة أو غير قانونية. وعلى هذا فلم يذكرها مليتو أسقف ساردس (القرن الثاني م) من الكتب المقدسة، ولا أوريجانوس الذي نبغ في القرن الثاني، ولا أثناسيوس ولا هيلاريوس ولا كيرلس أسقف أورشليم، ولا أبيفانيوس، ولا إيرونيموس، ولا روفينوس، ولا غيرهم من أئمة الدين الأعلام الذين نبغوا في القرن الرابع. وكذلك لم يذكرها المجلس الديني الذي التأم في لاودكية في القرن الرابع، مع أنه حرر جدولاً بأسماء الكتب المقدسة الواجب التمسك بها.
(8) هذه الكتب منافية لروح الوحي الإِلهي، فقد ذُكر في حكمة ابن سيراخ تناسخ الأرواح، والتبرير بالأعمال، وجواز الانتحار والتشجيع عليه، وجواز الكذب (يهوديت 9: 10، 13). ونجد الصلاة لأجل الموتى في 2مكابيين 12: 45، 46 وهذا يناقض ما جاء في لوقا 16: 25، 26 وعبرانيين 9: 27.
(9) قال الأب متى المسكين في كتابه «الحكم الألفي» (ط 1997، ص 3): «كتب الأبوكريفا العبرية المزيفة التي جمعها وألَّفها أشخاص كانوا حقاً ضالعين في المعرفة، ولكن لم يكونوا مسوقين من الروح القدس (2بط 1 :21) مثل كتب رؤيا عزرا الثاني وأخنوخ ورؤيا باروخ وموسى وغيرها». ثم قال الأب متى المسكين في هامش الصفحة نفسها: «تُسمى هذه الكتب بالأبوكريفا المزيفة». وهي من وضع القرن الثاني ق م، وفيها تعاليم صحيحة وتعاليم خاطئة وبعض الضلالات الخطيرة مختلطة بعضها ببعض، ولكنها ذات منفعة تاريخية كوثائق للدراسة».
وبما أن اليهود المؤتمَنين على الكتب الإلهية هم الحكَم الفصل في موضوع قانونية الأسفار المقدسة، وقد أجمع أئمتهم في العصور القديمة والمتأخرة على أنهم لم يظهر بينهم نبي كتب هذه الكتب، فإنه من المؤكد أن أحد اليهود المقيمين في الشتات وضعها. ولو كانت معروفة عندهم لوُجد لها أثر في كتاب التلمود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق